11 مايو 2010

الغاسلة

كانت تجلس على حافة البحيرة بثوبها الأخضر الحائل المهلهل و بجوارها كمية من الثياب البالية الممزقة تغطسها في ماء البحيرة .. ثم تفردها على صخرة مسطحه و تدعكها بقطعة حجر مستطيله محاولة عبثاً إزالة ما بها من أوساخ و شحوم و بقع تبدو و كأنها خُلقت قبل أن تُخلق هذه الملابس !

و للأسف فقد كانت كل مجهودات المرأة تذهب هباءً .. و السبب الأول في ذلك أن هذه الأوساخ كان لديها إصرار و تصميم على البقاء فوق هذه الثياب و كانت على استعداد للقتال من أجل تحقيق هذا الهدف النبيل حتى آخر طلقة .. أما السبب الثاني فراجع إلى أن المرأة لم تكن تجاهد مع البقع وحدها بل مع أطفال القرية الأشقياء الذين التفوا حولها و أوسعوها سخرية و استهزاء !

لم تكن هذه المرأة الشمطاء من أهالي القرية حتماً .. كانت امرأة غريبة عجوز جداً و كأنها ولدت قبل تفجر الدانوب من منبعه .. بشعة الخلقة مغصنة الوجه و فمها بلا أثر لأسنان .. و لها لثة حمراء قانية لامعة تبرز من بين شفتين رفيعتين رماديتين .. لم يعرفها أحد من أهالي ( جلايستيج ) عندما برزت فجأة فوق ضفة بحيرة ( أوهما ) صباح يوم و بحوزتها كمية ضخمة من الخرق البالية تعكف على غسلها بحماس .. لم يعرف أحد عنها أي معلومات سوى أنها تسكن كوخاً صغيراً بالقرب من ضفاف البحيرة .. الغريب أن أهالي القرية كانوا يستيقظون كل صباح على صوت ضرباتها الثابتة فوق الملابس بجوار البحيرة .. كل يوم بلا انقطاع .. الأغرب أن كوخها برز فجأة إلى الوجود و لم يكن له أثر من قبل و لم يشاهدها أحد و هي تبنيه .. بل لم يعرف أحد متى تم بناءه !

.....................

(جراهام) وحده من بين كل أطفال القرية الذي لم يكن مثل الباقين !

كان ولداً لطيفاً مهذباً يتكلم بصوت منخفض و لا يشتم و لا يسب و لا يحطم ممتلكات الآخرين و لا يصرخ في الطرقات كالهمجي و لا يتقاتل مع رفاقه و يوسعهم ضرباً .. و كذلك لم يكن يضايق المرأة الغريبة و لا يتعمد إيذائها كسائر صبية القرية العفاريت .. أما المعجزة الحقيقية فقد كانت في إنه يجيد القراءة و الكتابة !

تصور طفل في التاسعة يجيد القراءة و الكتابة في قرية لا يوجد فيها شخص واحد يستطيع أن يكتب أسمه .. بل إن قسيس القرية نفسه لم يكن يجيد قراءة المناشير و القرارات التي تأتي للقرية من ( فايهلم ) .. فكان يلجأ لـ (جراهام ) سراً لكي يقرأها و يفسرها له !!

و لذلك فإن المرأة الغريبة ؛ التي لم يكن أحد في القرية قد بادر بالكلام معها حتى الآن بل لم يكن هناك من يعرف أسمها بعد ؛ عندما احتاجت للمساعدة لم تجدها سوى عند (جراهام) !

..................

ذات صباح رمادي كئيب أستيقظ أهل قرية ( جلايستيج ) باكراً جداً على صوت نواح مرعب يتردد عبر طرقات القرية كعويل البوم .. هب معظم الناس من مراقدهم و خرجوا لاستطلاع الأمر .. و عندما صار أغلب الناس خارج بيوتهم وجدوا قس البلدة واقف بجوار باب الكنيسة الصغيرة يتفحص الأفق بقلق .. و يبدو أنه كان يحاول معرفة مصدر هذا النواح المخيف .. و كان من الواضح أن مصدر الصوت قادم من حول البحيرة .. لذلك فقد حسم القسيس أمره و بدأ يمشي نحو البحيرة و سار باقي أهالي القرية وراءه كالمسحورين حتى وصلوا إلى الضفة اليمنى من البحيرة .. و هناك وجدوا شيء ما غريب المظهر قد أعتلى التل المطل على البحيرة و وقف في ظل القمر ؛ الذي كان يقف خلفه و يحجب تفاصيله عن الأعين ؛ و أخذ في العواء بصوت مخيف يجمد الدم في العروق .. تجمد الناس فزعاً حتى أن القس بنفسه أرتعد خوفاً و أخذ يردد من بين شفتين مرتعشتين ( السلام لك يا مريم .. السلام لك يا مريم ! ).


و أخذ الناس يتطلعون بخوف لهذا المخلوق الغير محدد الملامح الذي راح يعوي و ينوح بصوته النحاسي المرعب دون أن يشكل حضور الناس بالنسبة له أي إزعاج أو تهديد !

وقف الجميع هكذا ينصتون لهذا الصوت الغريب غير قادرين على فعل شيء .. و لكن فجأة فُتح باب كوخ واقع على الناحية اليسرى من البحيرة و خرجت منه المرأة الغريبة بظهرها المنحني تستند على عكاز .. و وقفت لحظة تنصت لصوت النواح .. ثم فجأة تحدب ظهرها و صاحت في الناس بصوت جهوري مستهين:

-  " أهكذا تقفون كالأصنام و تتركون هذا الشيء يقلق نوم الأطفال و يحيل ليل القرية إلى مهرجان ؟!"

ثم فجأة أقدمت العجوز على حركة لم يكن أحد ليتوقعها منها أبداً .. فهذه المرأة الفانية التي لا تستطيع أن تنصب ظهرها انتزعت عكازها بغتة و قذفته نحو المخلوق الممتطي ظهر التل .. و أمام عيون الناس غير المصدقة طار العكاز كالسهم البارع و أصاب المخلوق الملتف بظل القمر و أطاح به من فوق التل و انطلقت المرأة تصرخ :

- " هيا أغربي من هنا .. أذهبي عليكِ اللعنة ! "

ثم نظرت لأهالي القرية و قالت لهم باستهانة و توبيخ :

- " قبحتم من جبناء ! "

و فجأة استدارت عائدة إلى كوخها بخطوات ثابتة .. و لكن ليس قبل أن تبصق على الأرض دليلاً على اشمئزازها من جبن رجال القرية و أهلها !


و كانت هذا اليوم هو بداية التعارف بين " جراهام " و بين العجوز الغريبة !

...................

عندما أشرقت الشمس و غمرت شوارع القرية الهادئة كان أهالي القرية بالفعل خارج بيوتهم منذ ساعات طويلة .. لأنهم لم يخلدوا للنوم بعد حادثة هذا المخلوق الغريب و نواحه الذي أصابهم بالذعر و التشاؤم .. و لم يكن الذعر و التشاؤم وحدهما اللذان سيطرا على أهالي ( جلايستيج ) ذلك اليوم بل أضيف إليهما كميات هائلة من الدهشة و الارتياب إزاء المرأة العجوز الغريبة .. و الغريب أن أهالي القرية انتشرت بينهم شائعة ؛ سرت بسرعة البرق ؛ تؤكد أن المرأة العجوز ما هي إلا ساحرة إبليسية شريرة ، أما موقفها الشجاع نحو المخلوق الغريب الذي أقض مضاجعهم في الليلة الماضية فقد حورته العقلية الجاهلة و حولته إلى دليل دامغ على اتصال المرأة بالشيطان و علاقتها الوثيقة به .. و إلا فكيف استطاعت وحدها ؛ و بمجرد ضربة من عكازها ؛ إبعاد هذا المخلوق المخيف !

و الحقيقة أن موقف المرأة في الليلة الماضية كان وبالاً عليها !

فبمجرد خروجها من باب الكوخ ألتف حولها أطفال القرية الأشقياء الحفاة و أخذوا يمطرونها بالشتائم و قطع الحصى و الطوب .. أما أطفال جوقة الكنيسة فقد راحوا يرددون ترانيم بصوت عالٍ و يبرزون الصلبان في وجه المرأة لكي تحرقها !

و حاولت المرأة جاهدة الخروج من حلقة الحصار التي أحكمها حولها الأطفال دون فائدة .. فقد كانت تصطدم بهم من كل ناحية .. و تمزقت أطراف ردائها و سقطت الخرق التي تحملها من بين يديها و لاكتها أقدام الأطفال في الطين و التراب .. و أخذت المرأة المسكينة تصرخ و تصرخ دون أن يتحرك أحد من أهل القرية الذين كانوا يتابعون المشهد من قرب ببرود و لا مبالاة .. و ظلت المرأة تصرخ حتى سقطت على وجهها في الطين .. و في هذه اللحظة تقدم (جراهام) لمساعدتها .. هذا الطفل الشجاع أخترق حلقة الأطفال و واجههم بشجاعة فائقة .. و ساعد المرأة على النهوض و جمع لها خرقها من الأرض و حملها تحت إبطيه .. كل ذلك و لداته من الصبية و الفتيات ينظرون له بعدوانية واضحة بوجههم القذرة و عيونهم المليئة بالرمد و الذباب و لكنهم غير قادرين على إلحاق الأذى به .. أليس هو (جراهام ) المتعلم الوحيد في القرية و الذي حذرهم آبائهم و أمهاتهم من إلحاق الضرر به .. لأنه يستطيع قراءة الكتاب المقدس و يستطيع أن يدعوا المسيح ليمسخهم جميعاً !

و هكذا وقفت المرأة أخيراً على قدميها و هي ترتعش غضباً و خجلاً مما ألحقه بها أولئك الملاعين .. و بمجرد أن نهضت و اعتدلت حتى نظرت للأطفال بغل بالغ و قالت لهم بصوت غريب ذو صدى :

- " فليجازكم الرب حسب أعمالكم .. و لتحل عليكم اللعنة ! "

ثم نظرت لـ (جراهام) الذي يحمل لها خرقها البالية تحت ذراعيه و مسدت على رأسه :

- " فليباركك الرب .. و ليعطك ماء حياة مجاناً ! "

و يبدو أن الرب قد أستمع لنداء المرأة المظلومة .. ففي اليوم التالي مباشرة بدأت بوادر أكبر و أشنع وباء طاعون حل باسكتلندا منذ قرون !

...................

( أدجار روكفون ) ذو السبعة أعوام يرقد في صحن دارهم أسود الوجه محموماً يتصبب عرقاً .. و قد جربت أمه كل الوصفات التي أشارت عليها بها نساء القرية و جداتها العجائز الجاهلات .. فلم تزدد حالة الغلام إلا سوءً .. فلجأت الأم الحزينة المرهقة بأعباء سبعة أبناء آخرين غير ( إدجار ) إلى اللجوء إلى قسيس القرية الذي حاول معالجة الصبي ؛ الذي امتلأ وجهه و جسده ببقع سوداء لامعة متعمقة في الجلد ؛ بالماء المقدس و الزيت المبارك .. و لكن دون جدوى .. و بينما كان الصبي بين يدي القسيس سقط فجأة و كأن شيء قد أنفجر داخله .. ثم ترنح و تفجر الدم من فتحتي أنفه .. ثم أسلم الروح بين صرخات أمه الملتاعة !

و لم يكن (أدجار) إلا الحلقة الأولى في سلسلة طويلة سحبت وراءها نصف أطفال القرية .. و قد أرسل القسيس استغاثة إلى ( فايلهم ) و لكن لم تأتيه إجابة لمدة أكثر من أسبوعين حصد خلالها الوباء أكثر من خمسمائة من أرواح سكان القرية .. و عندما جاءت الإجابة من حكومة الإقليم في ( فايلهم ) أصبح الوضع أكثر صعوبة و خطورة .. لأن حكومة الإقليم لم تفعل أكثر من إغلاق القرية و المناطق المحيطة بها و منع الدخول إليها و الخروج منها و حشد قوات حول المنطقة بأكملها لتنفيذ هذا القرار .. دون تقديم أي نوع من المساعدة !

و لكن الحقيقة التي لم يعرفها القسيس أن الحكومة لم تتخذ هذا القرار عبثاً و لم يكن خاصاُ بمنطقة ( جلايستيج ) وحدها .. لأن الوباء ببساطة كان يعصف باسكتلندا من شرقها إلى غربها و من جنوبها إلى شمالها .. بل وصل إلى ( ويلز ) و أجزاء من ( إنجلترا ) و ( هولندا ) و حتى ( روسيا ) و ( النرويج ) كانتا في قبضة هذا الطاعون الرهيب .. و لكن أهالي ( جلايستيج ) لم يعرفوا شيئاً من كل ذلك .. و كانت جهالتهم هذه سبباً في تجرعهم كأس العذاب مرتين !

..................

بعد مرور خمسة أسابيع على بداية الوباء وصل الحال في القرية إلى حد لا يطاق .. فالموتى أصبحوا يفوقون قدرة الحانوتي على القيام بالطقوس الواجبة .. و امتلأت المساكن بالتوابيت الخشبية المعدة لحمل سكانها عندما تحين ساعاتهم المنتظرة .. و هي ليست بعيدة على أي حال .. و صار سكان ( جلايستيج ) كالأشباح التي نهضت من قبورها ريثما تعود إليها .. و أصبح الكل لا يفكرون سوى في الموت .. حتى نسي أولئك البؤساء أن هناك شيء أسمه ( حياة ) .. و أحتشد الناس داخل الكنيسة و خارجها يصلون طالبين الرحمة مصلين بأشد لجاجة .. و لكن دون فائدة .. فقد بدا أن أهالي هذه المنطقة التعسة ؛ كما كانوا يتصورون ؛ قد سقطوا من حسابات رحمة السماء .. أو أن السماء أغلقت آذانها دونهم لتستريح من إلحاحهم و لجاجتهم !

كان هذا هو الوضع عندما أكتشف سكان القرية فجأة أن السبب في كل هذا العذاب ليس إلا هذه المرأة العجوز المخيفة !

....................

ذات صباح رمادي كئيب حجبت فيه الشمس وجهها عن ( جلايستيج ) خرج المزارع " بطرس مالغوازين " من بيته الصغير حاملاً في يده فأس حديدية صدأة .. كان منكوش الشعر و عيناه محمرتين و قد لمعت نظرة جنون بيت جفنيه المرتخيين و بدأت عليه مخايل الجنون الحقيقي .. و أندفع بالفأس التي يحملها نحو بحيرة ( أوهما ) و نحو كوخ المرأة العجوز الغريبة .. كان يبدو على ( بطرس) إنه ينوي أمراً ما ، و الأخطر أنه بدا عليه أنه يظن أن هذا الأمر الذي ينويه هو الذي سيخلص ( جلايستيج ) من اللعنة و العذاب .. و بالفعل قد توجه نحو كوخ المرأة و طرق الباب طرقة واحدة عنيفة صائحاً بصوته الجهوري المزعج :

- " هيا .. هيا افتحي أيتها الساحرة ! "

و بعد لحظة ؛ و دون أن ينتظر إجابة ما ؛ شرع (بطرس) يحطم باب الكوخ بفأسه بحماس بالغ !

و الأغرب أنه في ظرف دقائق كان كل أهالي ( جلايستيج ) قد تجمعوا حول كوخ المرأة و سرت إليهم عدوى الحماسة و الجهالة من (مالغوازين) و راحوا يحطمون كوخ المرأة المسكينة و اقتحموه بحثاً عنها ، و لكنهم لم يعثروا لها على أثر ، و لم يثنهم هذا عن عزمهم فشرعوا يبعثروا حاجياتها و يحطموا قطع الأثاث الهزيلة التي عثروا عليها بحقد غريب .. و بعد أن شفوا رغبتهم في الانتقام اتفقوا على أن يبقوا في انتظارها حتى تأتي ليكملوا انتقامهم و قد عزموا ؛ دون اتفاق مسبق ؛ على قتلها و تمزيقها إرباً إرباً و إطعامها لكلابهم و قططهم !

....................

و لكن المرأة لم يظهر لها أثر في هذا اليوم .. و لا في اليوم التالي .. و لا حتى في الأيام التي تليه !

فقد اختفت و تبخرت تماماً .. و مثلما ظهرت في قريتهم فجأة رحلت عنها فجأة !

و لم تعد إلى القرية مجدداً !

ولكن في طول اسكتلندا و عرضها أخذت تظهر في كل بلدة امرأة عجوز شمطاء ذات ثياب خضراء مهلهلة تغسل خرق بالية كثيرة كل صباح .. و تزعج نوم سكانها مخلوقات غامضة تعتلي تلالهم و مرتفعاتهم و تعوي بصوت نحاسي غريب مثيرة الذعر و الفزع و التشاؤم .. و في كل مكان يكون هناك أطفال أشقياء ملاعين يضايقون النساء العجائز الغريبات مما يدفعهن إلى صب لعناتهن عليهم .. و هكذا يبدأ الوباء .. و هكذا ينتقل الوباء من قرية إلى أخرى و من مقاطعة إلى أخرى و من بلد إلى آخر .. و تظل الغاسلة تقوم بدورها في كل مكان تطأه قدمها .. و بعد أن رحلت عن ( جلايستيج ) بأشهر قليلة كانت القرية قد أنمحت من على خريطة اسكتلندا و صار سكانها أشباح هائمة تسكن الخرائب المتخلفة عن بقايا البلدة التي دمرها الطاعون .. و من بين كل سكان ( جلايستيج ) و مقاطعة ( ويلهام ) لم ينجو سوى صبي صغير أسمه (جراهام ) .. و ما ذلك إلا لأنه الوحيد الذي نال شفاعة الغاسلة و رضاها !

تأليف : منال عبد الحميد

المراجعة والإخراج الفني : كمال غزال

ملاحظة
هذه القصة مستوحاة من أيام جائحة مرض الطاعون أو كما كان يوصف باسم الموت الأسود حيث قضى على عدد كبير من الضحايا فانتشرت جثث البشر في أماكن عديدة من أوروبا إحتى وصل شمالاً إلى أراضي اسكتلندا والنرويج وذلك خلال منتصف  القرن الرابع عشر وتحديداً بين سنتي 1347 إلى 1349.

 

هناك تعليقان (2):

  1. رائعه دائما استاذه منال
    فى انتظار المزيد

    ردحذف
  2. شكرا
    جدا رائعة القصة
    استمررري

    ردحذف